هجوم الثورة المضادة علي التواصل الإجتماعي

في هذا العصر، صار صولجان الفرعون رقميًا. قبل تسع سنوات، أستطاع المعارضون تثوير دور وسائل التواصل الاجتماعي لتصبح أدارة حشد ومعارضة سياسية. وعلى عكس ما يعتقده البعض في إن الدولة المصرية ليست راكدة ولا فاقدة للرؤية المستقبلية، خاصة فيما يتصل بمجالات الأمن وجمع المعلومات الاستخباراتية.

خلال 108 شهرًا مضت عقب الثورة، وضع النظام قواعد لحماية نصيبه من الكعكة الاقتصادية والسياسية على أرض الواقع، كما شن هجمته في الحلبة الرقمية. ورغم أن فيسبوك وتويتر منصات للإعلام “المجتمعي”، فإن الدولة المصرية العميقة قررت تسخير إمكاناتها كي تتحكم في الحيوات السياسية لملايين المصريين عبر هاتين الساحتين. الأخطبوط الأمني لم يدخر جهدًا في التلاعب بهاتين المنصتين والتحكم فيهما، وفي استغلاله لتويتر وفيسبوك قصة لم يلتفت إليها أحد بالاهتمام الذي تستحقه.

“كان عليك أن تحيا – كنت تحيا فعلًا، وفقًا لعادة تحولت إلى غريزة – بافتراض أن كل صوت تصدره هناك من يسمعه، وأن كل حركة – إلا إن كانت في الظلام- هناك من يرصدها”.

ربما لا تكون مصر – حتى الآن- هي دولة أورويل في 1984، لكن استبداد مؤسستها العسكرية يدفعها للعدو نحو هذا المصير، وعزمها على رصد كل شاردة وواردة في الفضاء الرقمي هو رأس هذا الرمح الاستبدادي.

شددت الدولة العميقة قبضتها على كافة أشكال الإعلام، وبالتزامن، صوَّب رجال الأمن السريون مناظير بنادقهم صوب وسائل التواصل الاجتماعي التي تضم أكثر من ثلث السكان. وعلى الرغم من أن هناك أسباب عديدة لدى الدولة لاتباع هذه الاستراتيجية، فإنها تضع سحق المعارضة في الفضاء الإلكتروني – غير الخاضع للرقابة – على رأس أولوياتها. ولنتذكر أن المصريين يعيشون الآن في فضاء عام تؤدي كل الطرق فيه إلى السجن.

مسؤولون رفيعون يزج بهم في السجن لمجرد التفكير في الترشح لرئاسة الدولة، ومواطنون مثل علاء عبد الفتاح يلقى القبض عليهم لارتكابهم “جريمة التفكير” كما في عوالم أورويل، ومواطنون آخرون كأحمد بدوي يجدون أنفسهم في الزنازين لجريمة شنعاء مفادها حمل لافتة تعلن رفضهم لتعديلات دستورية، تجعل من السيسي ملكًا على مصر مدى الحياة. لذا عندما صار تويتر وفيسبوك مُسيَّسان، في الوقت الذي تتضاءل فيه الحرية عبر كافة الساحات الأخرى، فإن غريزة النظام اندفعت نحو القمع في كل مساحة ممكنة، ووُضِعَت البرامج التي تستهدف التلاعب بالرأي العام واحتكار اتجاهاته.

“الدولة المصرية لديها برنامج نشط ومتقدم للتحكم في المعلومات” كانت هذه الجملة بداية محادثة امتدت مع باحث في سبل السيطرة على المعلومات، مختص بدراسة الوضع المصري- ولن أنشر اسمه للحفاظ على أمنه الشخصي-. ويؤكد أن يد النظام المصري في التحكم في المعلومات هي يد طولى، وتمتد لاستهداف الحسابات الشخصية والمهنية.

يعتقد المواطن “س” أن التواصل مع شاغلي الفضاء العام من المواطنين الآخرين أمر بسيط ككتابة تغريدة على تويتر. ولكن في الفضاء السيبري المصري، فإن الوضع الحاكم هو السباحة عكس التيار، ديناميكيات تفاعل تلك المعارضة الخفية شديد التعقيد والخفاء، ويصعب التنبؤ بها كتيارات حركة مياه النيل. يقول الباحث: “إن تطبيقات التحكم في المعلومات التي تستخدمها الحكومة المصرية في الفضاء السيبري المصري بالغة الإنتشار، وتم تقنينها عبر نصوص شرعها البرلمان، بالإضافة للترسانة تكنولوجية، ويضاف إلى هذا: ميكانيزمات اجتماعية”.

الحيطان ليها ودان” كان منهجًا حاكمًا للتفاعلات الاجتماعية والسياسية في عهد عبد الناصر. دولة السيسي لا تكتفي بمراقبة مواطنيها، بل تفرض عليهم كيف يفكرون، تسعى لاحتكار ما يقولون، تعاقبهم بالغرامات والزج في السجون، وتغرق أي كلام جاد يطرحه أحدهم بركام من قمامة جيوشها الإلكترونية المنظمة.

البروباجاندا حاضرة دائمًا في عملية التواصل، ويتم نقلها في قنوات الوعي الجمعي باعتبارها حقائق، لا مجرد جمل دعائية. يتولى هذه المهمة خبراء في الدولة ومتعاطفين معها. هذه البيئة الخاضعة للتحكم التام، لها عدة تأثيرات أبرزها الخوف، الذي يطلق نوعًا من الرقابة الذاتية، وهي القاتل الأكبر لحرية التعبير.

لنفكر في الأمر كالتالي: عندما وقعت مظاهرات 20 سبتمبر، انطلق رد الفعل العصبي التلقائي لأجهزة الأمن وكشر عن أكثر أنيابه شراسة، تفتيش أجهزة الهواتف المحمولة في الشوارع تحول لمشهد مألوف ومتكرر، مجرد وجود مقال سياسي على حساب الفيسبوك الخاص بك أثناء التفتيش كان مبررًا كافيًا للاحتجاز. فجأة أصبحت كتابة تغريدة معارضة، أو حتى إعادة مشاركة التغريدات الغاضبة أو المعارضة الخاصة بآخرين، جريمة تستحق العقاب. قرر النظام اعتبار جميع الأفراد مذنبين حتى تثبُت براءتهم، وأحيانًا: مذنبون حتى لو ظهرت براءتهم.

ورغم الخوف من السجن والغرامات الضخمة، إلا أن 40 مليونًا من المواطنين يستخدمون فيسبوك، بينما يتواجد 2 مليون أو أكثر على تويتر، يضعون الحكومة القمعية في معضلة صعبة: كيف يمكنك التلاعب بالرأي العام. كيف تحقق الخرس، و”تقود” الأمة رقميًا نحو منطقة سيطرة مماثلة لتلك التي حققتها على أرض الواقع.

بحسب خبير التحكم في المعلومات فإن الحكومة المصرية ترى في فيسبوك خطورة تتجاوز تويتر. بسبب “قوته التنظيمية، والفعاليات التي يمكن تنظيمها والدعوة إليها من خلاله، والتي لعبت دورًا مهمًا في الثورة”. 70% من الاعتقالات التي استندت لمنشورات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، استندت إلى فيسبوك.

ولفهم كيف يقوم من يديرون الدولة بمحاولاتهم للتحكم بفيسبوك، ليست مهمة سهلة، فواجهة الاستخدام ليست موحدة ومفتوحة مثل تويتر، لهذا يصبح التحليل أكثر صعوبة. لكن من يتحكمون في الميكانيزمات موجودن. في الصيف الماضي استطاع فيسبوك أن يكتشف حملة منظمة للتلاعب بالرأي العام تعتمد على حسابات زائفة، وكان محركو هذه الحملة هما حكومتي مصر والإمارات. قام فيسبوك بحذف 259 حساب شخصي زائف، و102 صفحة، وخمس مجموعات وأربع فعاليات. التخفي والانتشار والتنظيم تجعل ممثلي الدولة على وسائل التواصل الاجتماعي أكثر خطورة وتأثيرًا.

لكن لدينا معرفة أكبر بالجهود المبذولة للسيطرة على مجريات التفاعل على تويتر. عندما تبحث في حملات التلاعب بالعقول التي تجري في تويتر، سواء كانت تلك الحملات تتم عبر جيوش التحرش الإلكتروني أو الحسابات الزائفة والبوت والتلاعب بالهاشتاجات، يمكنك أن تكتشف وجود الدولة العميقة كامنًا في هذا كله. “إنهم يوظفون الخبراء المناسبين للقيام بتلك المهام”. ويواصل خبير المعلومات الذي درس الحالة المصرية طويلًا: “إنهم يستثمرون الكثير في هندسة تلك الجيوش والحملات”.

نتيجة التعقيد التقني، أو للحفاظ على منهج العمل الذي يتبعونه غامضًا، فإن رجال الدولة يبقون أنفسهم على مسافة من تلك العمليات، وفي هذه الحالت يوظفون طرفًا ثالثًا – أجنبيًا- للقيام بأعمالهم القذرة. الأدوار مقسمة، تقوم الدولة وأجهزتها بالعمليات البسيطة مثل المراقبة اللصيقة للحسابات وبناء آلاف من الحسابات الزائفة التي تتعلق مهمتها بترديد خطاب الدولة وتضخيمه. لكن المهام الأكثر تعقيدًا مثل التلاعب بالهاشتاج، على سبيل المثال، يتم إسنادها إلى مختصون يقومون بدور “مقاول تكنولوجيا” لحساب الدولة. مثال على ذلك شركة هاكينج تيم الإيطالية التي تجاهلت الالتزامات الأوروبية في مجال الخصوصية وحقوق الإنسان، وباعت برمجيات تتبع ومراقبة واختراق لأجهزة الأمن المصرية، لتسهل على تلك الأخيرة التجسس على النشطاء، وتعريض حياتهم – بالتبعية- للخطر.

وعلى أهمية التفاصيل الصغيرة، تهتم الدولة المصرية بالصورة الكبيرة: تدفق المعلومات والتحكم فيه كمًا وكيفًا، والقدرة على الرؤية الشاملة للرأي العام هو الهدف الحقيقي، الأفراد أنفسهم ليسوا الهدف الرئيس. الأفراد يمكن استهدافهم بجيوش التحرش الإلكتروني لكي يصبح وجودهم على شبكات التواصل الاجتماعي يعني لهم المعاناة وهدم المصداقية وصد محاولات تشويه الصورة.

ويتفق خبير تطوير البرمجيات وحركة المعلومات في أن انتشار وجود الدولة المنظم على شبكات التواصل الإجتماعي، واستهداف أشخاص بأعينهم، يعرّشي فإن قدرتها على التأثير في الرأي العام.

وفي طرح آخر فحتى الشخصيات السياسية المؤثرة مثل د. محمد البرادعي، بحجم متابعيه الجبار الذي بلغ 6.3 مليون شخص، لا يمكنه أن يأمل في أن يواجه الرسالة التي تبثها آلة الدعاية التي تقودها الدولة العميقة. عشرات الآلاف من المتحرشين الإلكترونيين، بوتات تويتر، مئات الصفحات على فيسبوك، كلها مكرسة لكي تغرق الفضاء الإلكتروني المصري بأي شيء وكل شيء مفاده تأييد الدولة. هذا “الضجيج” الذي يكرر خطاب الدولة من حسابات لا تحصى؛ يؤدي لعملية غسيل أدمغة، يحتاجها المستبد في سعيه لإخراس المعارضة.

لو أنك تظن أن ثلاثي الأمن في الدولة (وزارة الداخية وأمن الدولة والمخابرات العامة) لا يريدون امتلاك أدوات المراقبة والسيطرة كاملة دون الاضطرار للجوء للاعبين الأجانب؛ سيكون ظنك خاطئًا. يقول خبير المعلومات: “الدولة تحاول طوال الوقت أن تبني قدرتها على المراقبة والتحكم داخليًا. لكنها لم تصل بعد لهذه الدرجة من الرسوخ والثقة”.

ليس بوسعنا أن ننكر، أنه كما نجحت القوى الثورية في تسخير فيسبوك وتويتر في 2011 كمنصات للتنظيم ونشر مبادئ الثورة؛ فإن الدولة – بالمثل- نجحت في أن تعكس اتجاه التيار. في عهد أخطر المستبدين الذين مروا على مصر؛ فإن وصمة السيطرة باتت تتمدد لتلطخ الفضاء الإلكتروني. لو كان لقوى الثورة أن ترد الضربة، فعليها أن تفعل ذلك بضربة رقمية مضادة.

About Amr Khalifa

An analyst, a political comentator on the uber complex Egyptian and MENA scene. I may not have every answer but I know the questions to ask. When not publishing in Ahram Online, Mada Masr, Daily News Egypt and Muftah I love the dynamic of the short story. If you adore the written word you have come to the right place. Pull up a chair and join me for a cup of literary tea.
This entry was posted in Uncategorized. Bookmark the permalink.

Leave a comment