كان صاحبنا، منذ الطفولة، مفكر بطبيعته، عاطفي و عطّاء و حسّاس لدرجة مؤلمة. كان شيء ما بداخله يحرك مشاعر المودة في الأخرين و لكن لعنه القدر برؤية واضحة للأمور منذ السنين الأولي للمراهقة. فهم مبكراً المعني الحقيقي للمقوله الشكسبيرية الشهيرة “العالم كله مسرح”. ومع مرورالزمن تأقلم مع الحزن كشريك طريق. شجرتين راسختين كانوا ظل الطريق : مصر و أمه
كان يجد في كوب الشاي الساخن حلاً لكثير من مشاكله . أنار الله طريقه فأصبح الصديق الصدوق لمن تكون العدالة بوصلة مبادئه. علي متن السفينة القاهرية، يوجد من الطيبين ما يكفي للإعتناء بمن يتخذوا من شوارع المحروسة مأوى لهم، و مع ذلك كان من النوعيه النادرة الذي لا يعطي المال بل كان ينتمي للفئة النادرة التي تعطي الأمل لفاقدي الأمل.
بين رشفة و الاخري من كوب الشاي الخصوصي، رسالة مودة يومية من عم مجاهد القهوجي الذي يكاد أن يكون أعتق من أسوار القلعه الذي يطل عليها المقهي. كانت تُساوره أشباح تراجيديه الأربعة سنين الماضية كالغالبية العظمى من المصريين.
الإحساس الغالب كان الجري في حارة ضيقة، مظلمة ،طويلة ما يطارده لم يكن النظام أو المجتمع المتهلهل بل أنهار من االنيران البركانية تزحف بإصرار في طريقها إليه. في أغلب الأحيان كان يستطيع أن يركض لاهثاً ويبعد عن النار و رغم ذلك دائماً كانت حارته مكان للصراع و ليست المهرب المطلوب.
للمُدخّن التقليدي ، كانت عملية التدخين عملية حسابية مكونة من شهيق و زفير أما في حالة صاحبنا كانت رقصة يُقّبل السيجارة فيها ليصبح الدخان أسيره ثم يطلقه و معه جزء من احمال اليوم. وفي هذا اليوم بالتحديد، عيد ميلاده التاسع والعشرون، وسط سحابة الدخان، لمح تفاصيل شعرها الداكن منذ اللحظة الأولي عندما لمست يدها اليمني الكسر القديم في كتفه. قالت في مداعبة تلقائية وكأنها تعرفه منذ سنوات “هتولعلي ولا؟” . أحس بلهفة طفل في الخامسة من عمرة عندما ياتي أبوه بأول حصان يوم المولد النبوي. كان ذهنها دائماً يقظ ومتحدي، واقعيه و في الوقت ذاته تجسيد لكل ما هو مبهج ومنير للطريق.
مع نهاية اللقاء الأول وقفت و عانقت عيونها عيونه قائلة “اشوفك السيجارة الجاية”. و تتالت المقابلات وزادت الإبتسامات حاملة المعاني التي تختبيء بين طيات رقصة الحالمين. كانت رقصتهم رقصة متغيرة الأطوار وكثيرة التفاصيل. أحياناً كان الحوار سياسي ساخن ولكن دائماً بريء من تهمه السذاجة و أحياناً أخري كان يتطرق للفن، أي إن كان الموسيقي ، السينمائي أو الأدبي منه و ما كان يشغلهم كانت النفس البشرية وفك طلاسمها. من خلال محاولات فلسفية متعددة لفهم البشر تخبطوا في طرقات الحياه لكي يتفهموا نفسهم و كانت المحاولة في حد ذاتها متعتهم. أحب فيها احترامها لذاتها وعشق نظرتها الجمالية لكل ما يحيط بها. وفي يوم حارق في حرارته بالرغم من الأجواء الخريفية وهو يتسلق سلالم العمارة العتيقه بالمنيل اكتشف إنه يحبها. و ابتسم إبتسامة الطفل الوليد لأمه. جلس علي السلم و قبل الإنتهاء من السيجارة قرر الإعتراف لها غداً. إنما كما تعودها جاءت الدنيا برتوش موسيقية تلفظها الأذن.
لا يذكر أي تفاصيل إلا اللحظة الأخيرة: “أنا نازلة محمد محمود” قالت له . و حالت الظروف الصحية للمرأة الأخري المهمه في حياته، أمه، دون مقابلته للحوريه و وعدها باللقاء في التاسعة صباحاً .
في تمام الثامنة و سبع دقائق في اليوم التالي ذهبت الحوريه إلي مثواها.
ذهب لمكانه المفضل بكورنيش النيل بعيداً عن العيون، نظر بتمعن للقمر و لوهلة لمح حزن في معالمه. النيل كان طوال عمره بمثابه نهر النقاء في وسط العاصمه الملوثة و به القي الوردة البلدي هدية عيد ميلاده الأخيرة منها. لم تكن لحظة وداع بل كانت لحظة إعتذارعن جبن معنوي منعه دون الإباحة بحبه قبل فوات الأوان.
لم يري الإبتسامة بين السحب بل أحس بنسمة هواء باردة وهو يترك النيل خلفه. توقف مكانه لعدة ثوان ونظر نظرة أخيرة للنهر النقي ومضي في طريقه.